مجتمع

ولي العهد الغامض: ماذا لو غيب الموت المرشد الإيراني؟

رحل ثمانية رؤساء لإيران من قبل عن مواقعهم، لكن مرشدا واحدا فقط رحل عن موقعه بالموت عام 1989، فما الذي قد يحدث مع رحيل المرشد الحالي علي خامنئي؟

future المرشد الإيراني علي خامنئي

لم تتأثر الدولة الإيرانية بغياب رئيس الجمهورية، إبراهيم رئيسي، حين اختفت طائرته في التاسع عشر من مايو الماضي، وقال المرشد الأعلى صراحةً إن «شؤون الدولة لن تتأثر»، ولم تمض ساعات على الإعلان الرسمي عن وفاته في اليوم التالي حتى أعلنت الحكومة أن موت إبراهيم رئيسي لن يُسبِّب «أي اضطراب» في عملها، وتولى محمد مخبر، نائب الرئيس، مهامه مؤقتاً لحين إجراء انتخاب شخص بديل، وفقاً للدستور.

فغياب الرئيس ليس من شأنه أن يُحدِث أي تغييرات كبيرة في النظام؛ فالسياسات العامة يقررها المرشد الأعلى، علي خامنئي، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة بشقيها؛ الجيش والحرس الثوري، وله صلاحيات دستورية ودينية مطلقة؛ ومكانة روحية هائلة مرتبطة بالمنصب، ويكاد يقتصر دور الرئيس على تنفيذ السياسات التي لم يخترها ويضعها بنفسه.

ماذا لو مات المرشد؟

رحل ثمانية رؤساء من قبل عن مواقعهم، لكن مرشداً واحداً فقط رحل عن موقعه بالموت عام 1989، تاركًا خَلَفه في الحكم حتى يومنا هذا، فالمرشد يحكم إلى نهاية حياته. وترتيبات الخلافة في حالة موت المرشد تتسم بالسرية ولا يتم الإفصاح عنها للعامة، والمرة الوحيدة التي شهدت فيها الجمهورية الإيرانية انتقال السلطة، حلّ فيها رئيس الجمهورية محل المرشد المتوفى.

ولم تكن أهمية موقع إبراهيم رئيسي تكمن في توليه رئاسة الجمهورية فقط، بل في كونه الخليفة المرتقب للقائد الأعلى، فاختياره رئيساً للجمهورية اعتُبر بمثابة تعيينه كولي للعهد، فرغم ضعف حضوره إلا أن المرشد اعتبره الشخص المناسب لأنه كان ينفذ ما يريده منه.

وعلى هذا الأساس جرت «هندسة الانتخابات» لاستبعاد أي منافس له، لكن عقب موته نُشرت تقارير تُفيد أن مجلس الخبراء كان قد شطب اسمه من قائمة خلافة المرشد قبل ستة أشهر، بسبب تراجع شعبيته وضعف إدارته للبلاد وسوء الوضع الاقتصادي، وأن رجال دين مُتنفّذين مارسوا ضغوطاً قوية لإعادة كتابة اسمه.

وأياً ما كان، فإن المرشد جهّز الساحة السياسية خلال السنوات الأخيرة بطريقة تستبعد الأقل ولاء له وتُقرِّب الأكثر تشدداً وطاعةً؛ فآخر دورتين برلمانيتين هيمن عليهما المتشددون وحُرم الإصلاحيون من مجرد الترشح لمجلس الشورى، فبعد أسبوع من مقتل رئيسي، بدأ البرلمان دورته الثانية عشرة التي توصف بأنها تضم النوّاب الأكثر تطرفاً وقرباً من الدولة العميقة، وانتخب هؤلاء في اقتراع شهد أدنى نسبة مشاركة وهي 41% في الجولة الأولى، وكذلك كانت الانتخابات التي أتت برئيسي أيضاً.

فمجلس صيانة الدستور الموالي للمرشد أصبح يمنع معظم المرشحين في أي انتخابات، وبات الصقور يقفون على رأس كل أجهزة السلطة، كرئيس البرلمان، محمد باقر قاليباف، ورئيس السلطة القضائية محسني إيجئي، وبصفة عامة فإن المرشد يختار نصف أعضاء «مجلس صيانة الدستور» بشكل مباشر، ونصفهم الآخر يختاره رئيس السلطة القضائية الذي يُعيّنه المرشد، ويقود المجلس رجل الدين المتشدد، أحمد جنتي، لذا يعد اليد الضاربة لخامنئي لمنح ومنع المناصب المنتخبة.

مجلس خبراء القيادة

يعد مجلس خبراء القيادة الجهة المُخولة باختيار المرشد وعزله، ويحق لأعضائه اختيار واحد منهم وتعيينه مرشداً أعلى إن لم يجدوا الصفات المنشودة في غيرهم، طبقاً للمادة 107 من الدستور. وكل أعضاء مجلس الخبراء من الفقهاء الحائزين على موافقة مجلس صيانة الدستور، أي أن جميع أعضاء المجلس الذي يختار المرشد أتوا بموافقته هو والمقربين منه.

وتحظى الدورة الحالية لمجلس الخبراء -وهي الدورة السادسة ومدتها 8 أعوام- بأهمية خاصة، بسبب كبر سن المرشد الحالي الذي يبلغ 85 عاماً، لذا يُنظَر لدورة الانعقاد هذه بأنها من المحتمل أن تختار المرشد المقبل. ويتكون المجلس من 88 عضواً، لكن بعد وفاة إبراهيم رئيسي ومحمد علي آل هاشم، إمام جمعة تبريز، في حادثة الطائرة، أصبح عددهم 86 عضواً.

وفي اليوم التالي لإعلان وفاة رئيسي تم انتخاب موحدي كرماني رئيساً لمجلس الخبراء، بأغلبية 55 صوتاً، لمدة عامين، وهو من رجال المرشد؛ فقد عمل لسنوات كممثل له لدى الحرس الثوري، وهو عضو في مجلس الخبراء منذ تأسيسه، أي أنه كان في الدورة التي اختارت المرشد الحالي عام 1989، كما أنه عضو في مجمع تشخيص مصلحة النظام.

وهناك عدد من الأسماء تتطلع لخلافة خامنئي مثل صادق لاريجاني، رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام ورئيس السلطة القضائية حتى عام 2018، وعضو مجلس صيانة الدستور قبل أن يستقيل احتجاجاً على استبعاد شقيقه من الترشح للانتخابات الرئاسية، وخسر عضوية مجلس الخبراء مؤخراً لعدم حصوله على أصوات كافية.

وكذلك الزعيم الإصلاحي، حسن روحاني، الذي هبطت حظوظه بعد منع ترشحه لمجلس الخبراء، فالرجل الذي تولى رئاسة الجمهورية لفترتين متتاليتين بين 2013 و2021، قضى مجلس صيانة الدستور بعدم أهليته للترشح لمجلس خبراء القيادة في الانتخابات الأخيرة في مارس/آذار الماضي، ولما طالب روحاني بمعرفة أسباب استبعاده، كان الرد مُحمّلاً بأسباب سياسية مثل «عدم الوقوف في وجه الغرب».

وليّ العهد؟

بمجرد الإعلان عن اختفاء طائرة رئيسي تحولت الأنظار فجأة إلى رجل الظل النافذ، مجتبى علي خامنئي (55 عاماً)، الابن الثاني للمرشد، والذي لا يشغل أي منصب حكومي على الإطلاق، ولا يكاد يظهر في الإعلام إلا نادراً، لكنه أقوى المرشحين لخلافة والده.

ربما يكون مجتبى هو القائد الفعلي الحالي لإيران؛ فهو لسان وعين وأذن والده الطاعن في السن، وبينما يحسب كل المسئولين ألف حساب للقائد الأعلى، فإن من يتصرف فعلياً باسم هذا القائد المهيب ليس سوى نجله بصفته العائلية البحتة.

فظروف المرشد الصحية لا تتيح له الإشراف على كل كبيرة وصغيرة، بل كثيراً ما يكتفي بتفويض ابنه ومتابعة الوضع من خلاله، فتصدر التعليمات الشفهية والكتابية من مكتب المرشد لتأييد تعيين البعض في مناصب معينة أو إعفائهم منها، ولا يجرؤ أحد على تحدى سلطة مكتب الإرشاد.

فمثلاً عندما وقع حدث جلل بحجم اغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس بالحرس الثوري، عام 2020، تولى مجتبى التعامل مع الأمر دون الرجوع إلى والده، فبحسب مهدي فضائلي، أحد أعضاء مكتب الإرشاد، فإن مجتبى تلقّى غالباً التقارير من الأجهزة الأمنية قبل الفجر، وهو الذي تولى إبلاغ والده عندما استيقظ فجراً.

وأضاف فضائلي على حسابه على موقع «إكس» (تويتر سابقاً) أن مجتبى سلّم والده مذكرة عن خبر مقتل سليماني، فلما قرأها سأله عن التفاصيل، وبعد لحظات من التأثر واصل أوراده الصباحية المعتادة.

ويروي الرئيس السابق للإذاعة والتلفزيون، عبدالعلي عسكري، أن مجتبى اتصل به قبل الفجر لإعطائه التعليمات، فذهب بسرعة إلى مقر عمله واتصل بكل نواب المؤسسة.

كما كشف الرئيس السابق لهيئة الإذاعة، محمد سرافراز، في مناظرة له على تطبيق «كلوب هوس»، أن مجتبى أسّس في بيت المرشد مجموعة عمل تتكون من قيادات أمنية وعسكرية وسياسية وغيرها، هدفها مواجهة تداعيات نجاح الرئيس الإصلاحي، محمد خاتمي، في الانتخابات الرئاسية عام 1997.

وبحسب سرافراز فإن المرشد خشي من تبعات فوز خاتمي، وقاد مجتبى مع حسين طائب، الرئيس السابق لمنظمة استخبارات الحرس الثوري، هذه الاجتماعات الدورية التي عقدت مرات عدة خلال الأسبوع أحياناً. وبحسب روايته، لا تزال هذه اللقاءات السرية مستمرة على الرغم من عدم دعوته لها بعد تركه منصبه.

ورغم قوة نفوذ مجتبى وحصوله على دعم الحرس الثوري، القوة الضاربة في إيران، فإن موضوع خلافته لوالده يثير أزمة شرعية، ليس لشخصه فقط، بل للنظام الديني ككل؛ فالخميني، المرشد المؤسس، تمتلئ كتاباته وخطبه بذم النظم الملكية الوراثية باعتبارها مخالفة للإسلام، فما بالنا إذا آل النظام الذي أسّسه إلى سلالة وراثية بمجرد وفاته.

ورغم هذا السيناريو الذي يُتوقع أن ينال سخط قطاع كبير من مؤيدي النظام قبل معارضيه، فإن الاستقرار والاستمرارية على رأس أولويات النظام، خاصةً إذا لاح تهديد وجودي للنظام في ظل تردي نسب الرضاء الشعبي إلى أدنى مستوياتها في تاريخ الجمهورية، فالسبع سنوات الأخيرة شهدت سلسلة احتجاجات شعبية غير مسبوقة طالبت بسقوط النظام، راح ضحيتها الآلاف من القتلى والمعتقلين.

وخطا مجتبى خطوات مهمة ليتأهل علمياً لهذا المنصب؛ ففي صيف 2022، أذاعت وكالة أنباء الحوزة العلمية «راسا» خبراً عن بدء التسجيل في دراسة مقرر بحث الخارج (أرفع المستويات العلمية) لـ «آية الله» الحاج السيد مجتبي خامنئي، رغم أن تلك الدورة بدأت منذ عام 2008، لكنها المرة الأولى التي ينشر إعلانها بهذه الطريقة، وكأن المقصود منه لم يكن سوى إسباغ لقب «آية الله» عليه.

وجاء هذا الخبر بعد شهر من تحذير مير حسين موسوي، أبرز قادة الحركة الخضراء المُعارضة، من توريث منصب المرشد لمجتبى، كاشفاً عن أنه يسمع عن مؤامرة التوريث منذ 13 عاماً، ولم يسمع نفياً لها مرة واحدة.  تبع ذلك تصريح لمهدي كروبي، المرشح الرئاسي السابق والقيادي بالحركة الخضراء أيضاً، أيّد مخاوف موسوي، ووصفها بأنها «أصل مشاكل البلد»، وطالب بالرد على هذه التساؤلات.

السابقة الوحيدة

هناك سابقة وحيدة لتوريث السلطة في إيران وقعت عام 1989، إذ تم اختيار علي خامنئي خلفاً لروح الله الخميني، رغم أنه لم يكن يتمتع بنفس الكاريزما ولا الدرجة العلمية التي تمكّنه من تولي المنصب، لذلك تم تغيير الدستور لتمكينه من الحكم، ثم أُطلق عليه لقب «آية الله»، ولم يستطع أحد مقاومة سلطته بعد ذلك.

وفي عام 2018 تسرّب فيديو لجلسة مجلس الخبراء التي اختير فيها خامنئي، ويظهر فيها وهو يعترف بأن ترشيحه يواجه «إشكالات أساسية»، وأنه لا يمتلك الأهلية لهذا المنصب وقد يرفضه أعضاء المجلس لأنه ليس فقيهاً مجتهداً.

والشيء المثير في ذلك التنصيب أنه جرى التكتم على تلك التفاصيل؛ فجرى الإعلان عن اختياره مرشداً أعلى، رغم أن قرار مجلس خبراء القيادة نص على تعيينه بشكل مؤقت، لكن في الحقيقة تم الانتظار حتى تغيير الدستور ليناسب مقاسه، مما يطرح شكوكاً حول مدى الالتزام بمبدأ عدم التوريث، خاصةً مع محاولة البعض الاستدلال بتولي الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- الحكم بعد أبيه كدليل على جواز التوريث إن كان الابن مؤهلاً للقيادة.

# إيران # علي خامنئي

الهجوم الصاروخي على إسرائيل: إيران دولة برجماتية
حينما تفرض المدينة مصائر مأساوية
نظام الملالي: إيران بين رايات الإصلاحيين والمحافظين

مجتمع